منذ لحظة وعيي الأولى، آمنت "بفراشيتي".
أقصد آمنت بكوني فراشة، رائعة الجمال، خالية من القيود. وعلى الرغم من أني كنت أدرك كوني حالياً، مجرد دودة خضراء، صغيرة، بدون أجنحة، إلا أن الساعة الزمنية بداخلي كانت تخفق، وخفقانها يعدني بأن حياتي ستبدأ يوماً.
يوماً ما سأسافر مع نسيم الربيع، الذي سيحملني مثلما عطر المساء بين ذراعيه. ويوماً ما، ستنسج لي الشمس أجنحة بخيوطها المفعمة بألوان الحياة المختبئة بإشعاعها. أبداً لم أشك بهذا الأمر، فهذه حال صنفنا، ولم أفكر كثيراً بجسدي الدودي الذي أستقبحه، لأنه لا يعنيني.
لكنه كان يتعبني، هذا الجسد، ليس بقبحه، بل بالحصار الذي يفرضه على روحي. ففي الأمسيات ناعمة البرودة، كنت أحب تسلق شجرة الياسمين اليافعة، والمشوار غالباً ما يكون صعباً ومتعباً، بسبب هذا الجسد الثقال الذي لا يتفاعل، وعنفواني. لكني كنت أثابر. وأروع ما في مشواري هذا، الاحتكاك بالأزاهير البيضاء الرقيقة، التي كانت تترك على جسدي الخصي، عطرها الخرافي. وعندما أصل إلى قمة جبلي، أو على الأقل، أعلى قمة يمكنني أن أصلها، دون المجازفة بالوقوع، كنت أنهض باتجاه السماء، وأتصفح الأفق الذي سيصبح عما قريب، أفقي أنا. أنا، السر الذي ينتظر أن يباح.. والحياة التي تنتظر أن تعاش.
أن أملك الآفاق، وأن أكسب حريتي من الجاذبية هو ما أريد.. لا يزل المشوار أمامي طويلاً. لكني أحس، في لحظاتي هذه، بأن أي مخلوق آخر، في مثل ضعفي، لا يستطيع أن يلتصق بحمله أكثر. كانت هذه المغامرة خطرة جداً بالنسبة لي، وكل خطوة فيها تعبق بالمجازفة، لأني في لحظات انغلاقي بالحلم، وانغلاقي بالعبير، أكون هدفاً سهلاً لمناقير العصافير. لذا تعلمت استخراج روح العطر من كل لحظة، تماماً كما يفعل العطّار. وتعلمت أن أبخل على نفسي بلحظات كهذه، وأن لا أكررها كثيراً، رغماً عن شوقي لها. كنت أشعر بمتعة الحرمان والشوق، فقط لأني أعلم يقيناً أن حرماني واشتياقي لن يطولان، وأن ظمئي سأرويه ذات يوم. والأهم أن الأفق والعطر ينتظرانني، ولن يتخليا عني مهما طال غيابي.
كان لمجازفاتي طعم حلو مخفف للزوجة مرارة الانتظار. مثل طعم مكتبتي، التي كنت أهرب إليها، لأختفي بين أغلفة كتبها، من هذه المأساة التي تسمى بالواقع. كنت القارئ والمقرئ، أكولاً ألتهم النقاط على الحروف، آكل الأدب، والشعر، والفن، ويبقى جوعي لها.
ولكن لحظات انهماكي بامتصاص رحيق الآفاق والكلمات، مجرد قطرات معطرة، تضيع في عرق البقاء الممل، وبذلك المجهود الذي يمتصني، والذي أنفقه في ابتكار أساليب عجيبة للفرار من المناقير القاضمة.
هنا أجد نفسي مضطرة للوقوف فترات طويلة، كالتمثال دون حركة.. وهناك أضطر إلى محو نفسي وذاتي، والتماهي مع محيطي، كي لا تراني الطيور. كنت أحتمل كل شيء، بانتظار يومٍ يأتي لأخرج فيه من هذه القشرة.. أحتمل لأن عليَّ البقاء من أجل الفراشة التي سأكونها يوماً.
استمرت مرارة مشواري إلى أن وصلتُ آخر أيامي كدودة. غداً ألتف بشرنقتي، أقبع بين يدي القدر، بانتظار معجزة انسلاخي من رحم الألم.. قررت أن أستيقظ باكراً. لأشعر بمذاق يومي الدودي الأخير.. ولأحتفظ في رئتيَّ بآخر شهيق مؤلم، لهذا السجين الشجن.. ولأحمل ندوب الثمن الذي دفعته.. أردت أن أكون أكثر إدراكاً لدوديتي، لكي أكون أكثر استمتاعاً بفراشيتي.
أمامي الكتاب الذي بدأت قراءته منذ مدة. كان ممتعاً حقاً، يصعب علي طي صفحاته وتركها، كنت لا أريد له الانتهاء.. لكني في لحظة، قررت أن لا أنهي الكتاب، بل أن التهمه، كي لا ينتهي إلا بانتهائي. رقصت أحرفه أمامي، ورشفتها من تنقيطاتها، من همزاتها، من تناوينها وضماتها. غمرتني بعذوبتها.
ثم.. لا أعرف ماذا حدث. كيف أظلمت الدنيا فوقي، دون أن أشعر؟ من أين جاءت غرزة الألم في ظهري؟ كنت قبل لحظات في أعماق النشوة الغامرة، والآن أشعر بسائل دافئ لزج، يزحف على جسدي، ثم يصل إلى وجهي وفمي.. إنه دمي!! تذوقت فشلي. تذوقت عدمي. هل سأنتهي هكذا، لقمة صغيرة لا تُشبع؟ بدأت أنشج بالبكاء، فبكت معي السماء بغزارة. تثاقل العصفور، ونسي وجودي بمنقاره.. بدا لي أني أمضيت الأبدية في منقاره فيما نسى هو وجودي كلياً.
توقفت الأمطار مثلما بدأت، وذابت الشمس عبر الرذاذ فتسربت منها كافة ألوان الكون، رشيقةً تطير بين السحب. كنت، حتى اللحظة، متدلية من منقار الموت، مستسلمة. سألتني الفراشة بداخلي، هل هذا من حقك؟ تقلصت عضلات ظهري، والتوى جسدي. سألتها، هل تستحقين كل آلامي؟ لم يتوقع العصفور مقاومة وجبته. استغل الضعيف الكامن في جسدي لحظة تردد الجلاد، فأفلتَ منه. هويتُ إلى الأرض، وتهشم كبريائي. وأصبح لدي ندوب جديدة، أضيفها إلى مجموعتي.
جررت نفسي عبر الحشائش الندية، بحثاً عن ملجأ يحتويني لأموت. سوف أموت، كنت أمزّق كل ما عشته من آمال من أجل لا شيء. وكأني أكتشف صورتي وتعاستي بوضوح، ولزوجة دمي الممتزجة بالتراب، تزيد عزلتي.. متى أطرد جسدي من روحي الجميلة؟
هل أغمي علي؟ أم أني غفوت؟ لعلّي متُّ وعشت، أو لم أعش ومت.. في الحقيقة لم أعرف! لكن مشاعري غدت غريبة عن جسدي مرة أخرى. فقد حان وقت غزل الشرنقة، وتاريخ حياة هذه الدودة، سيختفي داخل مسامات النسيج.
لماذا أستمر؟ لماذا آمل بالشرنقة إذا كنت سأموت داخلها؟ ربما من الأفضل عدم بناؤها. ربما من الأفضل الالتفاف بقصافتي داخل هذه الحشائش. كانت الأفكار تتناثر أمامي، وروحي ترتعش داخل جسدي، الذي لم يتوقف عن عمله الموجع. كان يفرز الخيوط، وعقلي يفرز الأفكار.
مع كل خيط جديد يصنعه جسدي، أصنع خيطاً جديداً للأمل.. أنسجه بدأب، وأمزجه بما حفظتُ والتهمتُ من أشعار وصور وموسيقى، ومن رحيق زهيرات الياسمين، والمجنونة، والعبهرة، وشجر البرتقال. تزاحمت حولي ألوان الموسيقى. تذوقت طعم الروائح. تشممت أريج الألوان.. فأسكرتني، وخدرت عقلي.. لكن جسدي استمر غزل الشرنقة.
لا أحد يدرك كم نقضي داخل الشرنقة، وماذا نفعل داخلها، وليس لديّ من أسأله. فالديدان الأخرى مثلي، لم تخضع بعد لهذه التجربة. والفراشات، فراشات. لها عالمها الخاص، وهي لا تتحدث عن ماضيها. ومن أين لي أن أعرف ماذا أفعل بالوقت. وكيف أقنع جسدي روحيَ المسجونة، بدخول سجن آخر؟ أعتقد أنه كان يجب أن أترك وساوسي بالخارج.
لا خيار لنا عند الولادة. لا نختار من، ومتى، وأين، وكيف … ولماذا أصلاً!!! فقط نعرف أن وقت الخروج قد حان. الآلية المزروعة داخل صنفنا، لا تعترف بحرية الاختيار. ثمة شعور يدفعني للخروج. قلت لنفسي، سوف أتذكر كل هذا، سوف أرجع وأخبر الديدان الصغيرة. سأخبرها بأني في لحظة ولادتي هذه، نسيت احتساب الزمن، ولا زلت لا أعرف المدة التي قضيتها داخل الشرنقة، ولا أذكر ماذا فعلت لتزجية الوقت. لكني لم أشعر بالضجر.. كما أعتقد.
خرجت بسهولة لم أتوقعها. أخرجت رأسي، وسحبت جسدي الرطب خلفي. كانت الشمس ساطعة، اضطررتني لإغلاق عيوني. شعور غريب سكنني. لم أعد سراً أهمس به لنفسي. لم أعد سراً بعد الآن.. فأنا منذ الآن بوح. وهاأنت فراشتي، هاأنت أنا.
تبخر الألم. فردتُ أجنحتي وحلقت بين صفحات أفقي. أنا جزء من صفحاته. هاهي فراشتي. أنا فراشة، رائعة الجمال، خالية من القيود.. أو هكذا ظننت إلى أن طاردتني الطيور. اكتشفت أني لا أملك سوى ثوان للتمتع بألوان جناحي.
لم تكن لحظات انهماكي بالتمتع بفراشيتي، سوى قطرات معطرة، ضاعت ثانية بعرق البقاء الممل، وبذلك المجهود الذي ينهكني، أنفقه في ابتكار أساليب عجيبة للفرار من تلك المناقير القاطمة.
أضطر ثانية للوقوف هنا فترات طويلة بدون حركة، وهناك إلى محو ذاتي وألواني ودمج كياني بمحيطي، كي لا تراني الطيور. كنت أحتمل كل هذا، وأنا دودة، ولكن لماذا أحتمله اليوم؟
استولت عليّ رغبة بتسلق شجرة الياسمين العتيقة. قررت أن أفعلها. هاهو الأفق يمتد أمامي، والعطر الهامس بانتظاري، لم يتخليا عني. تعمدت أن أغوص بين الأغصان، وأن أدع الأزاهير الساحرة، تحتك بجسدي الذي أحبه، جسدي الذي اشتريته بحياة دودة، ظننتها ضعيفة.
متعتي بهذه الأمسيات، اللينة الملساء، لم تشتد، ولم تضعف. هل بدأت أم انتهت حياتي؟ لم أعرف. ربما لهذا السبب لم ترجع الفراشات للتحدث معنا.. أقصد مع الديدان.
فدوى القاسم
دبي 2002
أقصد آمنت بكوني فراشة، رائعة الجمال، خالية من القيود. وعلى الرغم من أني كنت أدرك كوني حالياً، مجرد دودة خضراء، صغيرة، بدون أجنحة، إلا أن الساعة الزمنية بداخلي كانت تخفق، وخفقانها يعدني بأن حياتي ستبدأ يوماً.
يوماً ما سأسافر مع نسيم الربيع، الذي سيحملني مثلما عطر المساء بين ذراعيه. ويوماً ما، ستنسج لي الشمس أجنحة بخيوطها المفعمة بألوان الحياة المختبئة بإشعاعها. أبداً لم أشك بهذا الأمر، فهذه حال صنفنا، ولم أفكر كثيراً بجسدي الدودي الذي أستقبحه، لأنه لا يعنيني.
لكنه كان يتعبني، هذا الجسد، ليس بقبحه، بل بالحصار الذي يفرضه على روحي. ففي الأمسيات ناعمة البرودة، كنت أحب تسلق شجرة الياسمين اليافعة، والمشوار غالباً ما يكون صعباً ومتعباً، بسبب هذا الجسد الثقال الذي لا يتفاعل، وعنفواني. لكني كنت أثابر. وأروع ما في مشواري هذا، الاحتكاك بالأزاهير البيضاء الرقيقة، التي كانت تترك على جسدي الخصي، عطرها الخرافي. وعندما أصل إلى قمة جبلي، أو على الأقل، أعلى قمة يمكنني أن أصلها، دون المجازفة بالوقوع، كنت أنهض باتجاه السماء، وأتصفح الأفق الذي سيصبح عما قريب، أفقي أنا. أنا، السر الذي ينتظر أن يباح.. والحياة التي تنتظر أن تعاش.
أن أملك الآفاق، وأن أكسب حريتي من الجاذبية هو ما أريد.. لا يزل المشوار أمامي طويلاً. لكني أحس، في لحظاتي هذه، بأن أي مخلوق آخر، في مثل ضعفي، لا يستطيع أن يلتصق بحمله أكثر. كانت هذه المغامرة خطرة جداً بالنسبة لي، وكل خطوة فيها تعبق بالمجازفة، لأني في لحظات انغلاقي بالحلم، وانغلاقي بالعبير، أكون هدفاً سهلاً لمناقير العصافير. لذا تعلمت استخراج روح العطر من كل لحظة، تماماً كما يفعل العطّار. وتعلمت أن أبخل على نفسي بلحظات كهذه، وأن لا أكررها كثيراً، رغماً عن شوقي لها. كنت أشعر بمتعة الحرمان والشوق، فقط لأني أعلم يقيناً أن حرماني واشتياقي لن يطولان، وأن ظمئي سأرويه ذات يوم. والأهم أن الأفق والعطر ينتظرانني، ولن يتخليا عني مهما طال غيابي.
كان لمجازفاتي طعم حلو مخفف للزوجة مرارة الانتظار. مثل طعم مكتبتي، التي كنت أهرب إليها، لأختفي بين أغلفة كتبها، من هذه المأساة التي تسمى بالواقع. كنت القارئ والمقرئ، أكولاً ألتهم النقاط على الحروف، آكل الأدب، والشعر، والفن، ويبقى جوعي لها.
ولكن لحظات انهماكي بامتصاص رحيق الآفاق والكلمات، مجرد قطرات معطرة، تضيع في عرق البقاء الممل، وبذلك المجهود الذي يمتصني، والذي أنفقه في ابتكار أساليب عجيبة للفرار من المناقير القاضمة.
هنا أجد نفسي مضطرة للوقوف فترات طويلة، كالتمثال دون حركة.. وهناك أضطر إلى محو نفسي وذاتي، والتماهي مع محيطي، كي لا تراني الطيور. كنت أحتمل كل شيء، بانتظار يومٍ يأتي لأخرج فيه من هذه القشرة.. أحتمل لأن عليَّ البقاء من أجل الفراشة التي سأكونها يوماً.
استمرت مرارة مشواري إلى أن وصلتُ آخر أيامي كدودة. غداً ألتف بشرنقتي، أقبع بين يدي القدر، بانتظار معجزة انسلاخي من رحم الألم.. قررت أن أستيقظ باكراً. لأشعر بمذاق يومي الدودي الأخير.. ولأحتفظ في رئتيَّ بآخر شهيق مؤلم، لهذا السجين الشجن.. ولأحمل ندوب الثمن الذي دفعته.. أردت أن أكون أكثر إدراكاً لدوديتي، لكي أكون أكثر استمتاعاً بفراشيتي.
أمامي الكتاب الذي بدأت قراءته منذ مدة. كان ممتعاً حقاً، يصعب علي طي صفحاته وتركها، كنت لا أريد له الانتهاء.. لكني في لحظة، قررت أن لا أنهي الكتاب، بل أن التهمه، كي لا ينتهي إلا بانتهائي. رقصت أحرفه أمامي، ورشفتها من تنقيطاتها، من همزاتها، من تناوينها وضماتها. غمرتني بعذوبتها.
ثم.. لا أعرف ماذا حدث. كيف أظلمت الدنيا فوقي، دون أن أشعر؟ من أين جاءت غرزة الألم في ظهري؟ كنت قبل لحظات في أعماق النشوة الغامرة، والآن أشعر بسائل دافئ لزج، يزحف على جسدي، ثم يصل إلى وجهي وفمي.. إنه دمي!! تذوقت فشلي. تذوقت عدمي. هل سأنتهي هكذا، لقمة صغيرة لا تُشبع؟ بدأت أنشج بالبكاء، فبكت معي السماء بغزارة. تثاقل العصفور، ونسي وجودي بمنقاره.. بدا لي أني أمضيت الأبدية في منقاره فيما نسى هو وجودي كلياً.
توقفت الأمطار مثلما بدأت، وذابت الشمس عبر الرذاذ فتسربت منها كافة ألوان الكون، رشيقةً تطير بين السحب. كنت، حتى اللحظة، متدلية من منقار الموت، مستسلمة. سألتني الفراشة بداخلي، هل هذا من حقك؟ تقلصت عضلات ظهري، والتوى جسدي. سألتها، هل تستحقين كل آلامي؟ لم يتوقع العصفور مقاومة وجبته. استغل الضعيف الكامن في جسدي لحظة تردد الجلاد، فأفلتَ منه. هويتُ إلى الأرض، وتهشم كبريائي. وأصبح لدي ندوب جديدة، أضيفها إلى مجموعتي.
جررت نفسي عبر الحشائش الندية، بحثاً عن ملجأ يحتويني لأموت. سوف أموت، كنت أمزّق كل ما عشته من آمال من أجل لا شيء. وكأني أكتشف صورتي وتعاستي بوضوح، ولزوجة دمي الممتزجة بالتراب، تزيد عزلتي.. متى أطرد جسدي من روحي الجميلة؟
هل أغمي علي؟ أم أني غفوت؟ لعلّي متُّ وعشت، أو لم أعش ومت.. في الحقيقة لم أعرف! لكن مشاعري غدت غريبة عن جسدي مرة أخرى. فقد حان وقت غزل الشرنقة، وتاريخ حياة هذه الدودة، سيختفي داخل مسامات النسيج.
لماذا أستمر؟ لماذا آمل بالشرنقة إذا كنت سأموت داخلها؟ ربما من الأفضل عدم بناؤها. ربما من الأفضل الالتفاف بقصافتي داخل هذه الحشائش. كانت الأفكار تتناثر أمامي، وروحي ترتعش داخل جسدي، الذي لم يتوقف عن عمله الموجع. كان يفرز الخيوط، وعقلي يفرز الأفكار.
مع كل خيط جديد يصنعه جسدي، أصنع خيطاً جديداً للأمل.. أنسجه بدأب، وأمزجه بما حفظتُ والتهمتُ من أشعار وصور وموسيقى، ومن رحيق زهيرات الياسمين، والمجنونة، والعبهرة، وشجر البرتقال. تزاحمت حولي ألوان الموسيقى. تذوقت طعم الروائح. تشممت أريج الألوان.. فأسكرتني، وخدرت عقلي.. لكن جسدي استمر غزل الشرنقة.
لا أحد يدرك كم نقضي داخل الشرنقة، وماذا نفعل داخلها، وليس لديّ من أسأله. فالديدان الأخرى مثلي، لم تخضع بعد لهذه التجربة. والفراشات، فراشات. لها عالمها الخاص، وهي لا تتحدث عن ماضيها. ومن أين لي أن أعرف ماذا أفعل بالوقت. وكيف أقنع جسدي روحيَ المسجونة، بدخول سجن آخر؟ أعتقد أنه كان يجب أن أترك وساوسي بالخارج.
لا خيار لنا عند الولادة. لا نختار من، ومتى، وأين، وكيف … ولماذا أصلاً!!! فقط نعرف أن وقت الخروج قد حان. الآلية المزروعة داخل صنفنا، لا تعترف بحرية الاختيار. ثمة شعور يدفعني للخروج. قلت لنفسي، سوف أتذكر كل هذا، سوف أرجع وأخبر الديدان الصغيرة. سأخبرها بأني في لحظة ولادتي هذه، نسيت احتساب الزمن، ولا زلت لا أعرف المدة التي قضيتها داخل الشرنقة، ولا أذكر ماذا فعلت لتزجية الوقت. لكني لم أشعر بالضجر.. كما أعتقد.
خرجت بسهولة لم أتوقعها. أخرجت رأسي، وسحبت جسدي الرطب خلفي. كانت الشمس ساطعة، اضطررتني لإغلاق عيوني. شعور غريب سكنني. لم أعد سراً أهمس به لنفسي. لم أعد سراً بعد الآن.. فأنا منذ الآن بوح. وهاأنت فراشتي، هاأنت أنا.
تبخر الألم. فردتُ أجنحتي وحلقت بين صفحات أفقي. أنا جزء من صفحاته. هاهي فراشتي. أنا فراشة، رائعة الجمال، خالية من القيود.. أو هكذا ظننت إلى أن طاردتني الطيور. اكتشفت أني لا أملك سوى ثوان للتمتع بألوان جناحي.
لم تكن لحظات انهماكي بالتمتع بفراشيتي، سوى قطرات معطرة، ضاعت ثانية بعرق البقاء الممل، وبذلك المجهود الذي ينهكني، أنفقه في ابتكار أساليب عجيبة للفرار من تلك المناقير القاطمة.
أضطر ثانية للوقوف هنا فترات طويلة بدون حركة، وهناك إلى محو ذاتي وألواني ودمج كياني بمحيطي، كي لا تراني الطيور. كنت أحتمل كل هذا، وأنا دودة، ولكن لماذا أحتمله اليوم؟
استولت عليّ رغبة بتسلق شجرة الياسمين العتيقة. قررت أن أفعلها. هاهو الأفق يمتد أمامي، والعطر الهامس بانتظاري، لم يتخليا عني. تعمدت أن أغوص بين الأغصان، وأن أدع الأزاهير الساحرة، تحتك بجسدي الذي أحبه، جسدي الذي اشتريته بحياة دودة، ظننتها ضعيفة.
متعتي بهذه الأمسيات، اللينة الملساء، لم تشتد، ولم تضعف. هل بدأت أم انتهت حياتي؟ لم أعرف. ربما لهذا السبب لم ترجع الفراشات للتحدث معنا.. أقصد مع الديدان.
فدوى القاسم
دبي 2002
Art |
Buy |
I Am What I Art(c) Copyright Fadwa Al Qasem 2024
|