رأي - هذا الطفل المسكين
"هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد". قال لي ابني الأسبوع الماضي، إنه إذا تزوج، مع التشديد على كلمة "إذا"، فعليَّ أن لا أنتظر منه أحفاداً. كم هو أناني، فعل الإنجاب. فعل استنساخ شرعي، يتقبله المجتمع والعلم والدين. لا تهمّنا صعوبة ظروفنا، قلة أموالنا، ضيق مسكننا، ولا نقص الغذاء، ولا الحروب، ولا إن كان هذا الذي سننجبه سيكون رقم 9 بين أخوته وأنه لن يرتدي يوماً قطعة ملابس جديدة. نريد أن ننجب! فماذا نفعل في حياتنا بعدما تزوجنا؟ وكيف نملأ وقتنا؟ نريد أن ننجب كي يكفّ الناس ألسنتهم عنا. كي لا نُتَّهم بالعقم. ولأن الأصدقاء وأبناء العمومة والجيران، وحتى قطط الحارة، أنجبت صغارها. نريد من نتحكم به، نريد فرصة فرض سلطتنا عليه، وفرض خبراتنا وتجاربنا ونصائحنا ومواعظنا، كأنها أفضل ما توصلت إليه الإنسانية. نريد أن نرضي غرورنا. نريد من يحمل اسمنا، جيناتنا، ذريتنا، سماتنا التي تعتقد أنها تستحق التوارث، لون شعورنا، عيوننا، ابتساماتنا، كأنها هي التي ستصلح كل أوجاع البشرية. نريد ما لا يتقبله مجتمع ولا علم ولا دين، على الأقل ليس علناً. نريد الخلود. وهذا الطفل المسكين. هذا الطفل المسكين، سيحمل على كتفيه الصغيرتين كل تفاهاتنا الكبيرة. من اسم اخترناه له، مثله مثل أي شارع أو ساحة. ثم نرانا نغضب عليه لأنه يحقد على اسمه الذي يتسبب له بالمشكلات أينما ذهب. نغضب لأنه لا يسمع كلمتنا، ولا نصائحنا... ثم تضحكه تجاربنا. نغضب عليه بشكل خاص لأنه يرفض مشروعنا. يرفض أن يكوننا. لأنه يفشل في تقمص خلودنا، فنحثه على الزواج والإنجاب، سريعاً، لعل أحفادنا يفلحون. نصي في صحيفة النهار
نص - بهارات شرقية عبق البهارات يغازل أنفي. خيوطه تلفّني من خاصرتي. يسألني: "من أين أتيتِ؟ تعالي، ادخلي". يذكّرني كم أعشق مغامرة الحياة. "من ذاكرة الأرض بُعثت"، أجيبه. "اقبلي"، يناديني مرافقي، "فهذه دهاليز عبرتها ألوف الأرواح، يحمل كلٌّ منها قصصاً وهموماً وأولاداً". أمشي خلفه عبر أقواس البوابة إلى البازار. أقفز فوق حجارة، تتوارى في ثناياها الملساء، المستديرة، أسرار تراكمت عبر العقود، فأشعر بتضاريسها تحت قدمي. شوارع مكتظة بالبشر. باعة متجولون، يدلّون على أمتعتهم. أقمشة، سجاجيد، فضيات، نحاسيات، حقائب بماركات زائفة، أكواز ذرة مشوية، كعك بالسمسم، عصير رمّان طازج. رجال، شباب وشيوخ، يجلسون على أبواب متاجرهم، كأنهم في جلسة ديوان. يتناولون الشاي من استكانات صغيرة، تقدّم على صوان من النمط القديم، كتلك التي تستخدم في الأسواق التقليدية في بلاد الشام. المسابح في اليد، والأحاديث في الأفواه. هذا رجل كردي كان والده يبخل عليه فلا يشتري له ملابس ولا أحذية، لكنه كان يشتري السلاح ويكدّسه. هذه سيدة من أم أردنية وأب سوري، جدة والدها كانت تركية، وددتُ لو أخبرهما أن جدة أمي كانت شركسية وأن جدي كان في الجيش العثماني. ثم أذانٌ يأتي من بعيد، بعيد، بعيد. يفسح له العبق الطريق، فينتشر في طبقات تتصاعد، يتجاوب فيها مؤذّنان، الله أكبر الله أكبر من جهة، الله أكبر الله أكبر من الجهة الأخرى. يعود العبق ليغريني، فلا أقاومه. يأخذ بيدي وأدعه. نحلّق كنوارس. ألتقط قرقعة الأحجار على طاولات الزهر في المقاهي. نساء يتهامسن ويضحكن ملء قلوبهن، ودخان النارجيلة يتصاعد من أفواه كأنها تشبه أفواهنا. "لا يشبهونك،" يهمس لي مرافقي بخبث. "بلى، كلهم يشبهونني، أكثر مما نريد أن نعترف". ألتقط أحاديث الأجساد. كم تبدو ساحرة عن بعد، وموسيقية. ذاكرتي، أو قدماي، أو روحي، تعود بي إلى زيارتي للقدس. البلدة القديمة. الشوارع الضيقة. الحجر الأملس تحت قدمي. الأقصى. طريق الآلام. رجال يحملون شيب رؤوسهم وهمومهم، وآثار حياة قاسية حفرت في وجوههم كما في الأرض، شوارع ضيقة تحمل بدورها التاريخ. "قد أكون فلسطينية في تركيا أو تركية في فلسطين"، أهمس في أذن مرافقي. مشهد يتكرر منذ ألوف السنين، في زمن دائري تتلامس أطرافه. ثم رأيتني طفلة، في مرايا العالم الآخر، أبحث عن يد كبيرة كانت تمسك بيدي. أمشي في دهاليز، لا أعرف أي سوق، وقد خلت من كل شيء. خرير خافت يصدر من مكان ما في جسدي. بعد قليل يصدح صوت الزيز كأنه طوفان يقترب. يتحطم النسيم على حجارة الطريق فتلتمع حوافه الحادة وتعكس ملايين الانكسارات التي احملها في عيني. أدرك أنني على مشارف الحياة من جديد. فأتمنى بيني وبيني أن أمتلك قلباً يفيض بمحبة وسماحة يسوعية. أتمنى أن أملك الجرأة كي أقول إن الأرض هنا هي الأرض نفسها هناك، وإن تربة الأرض شرقت بالدماء، وإن الأرض لا تفقه ولا الحجارة. |
AuthorWrite something about yourself. No need to be fancy, just an overview. Archives
November 2018
Categories |
Art |
Buy |
I Am What I Art(c) Copyright Fadwa Al Qasem 2024
|