"في المطارات ولدنا. نعرف القصة،
لكن … لن نموت في الموانئ" سميح القاسم أيها الدفتر العزيز، ماذا لو يقرؤك أبي؟ وماذا لو تقرؤك أمي، وأنا أتعرى أمامهم حرف تلو حرف؟ هل سيكتشفان سري أم سيظنان أني اسرد قصة فحسب ليس لها أية صلة بالواقع؟ أخشى أن يحزنهما اكتشاف ضياعي، وخوفي من حاضري، ومستقبلي، ومن تاريخ توارثته رغماً عني، في حياة أسأل نفسي فيها كل يوم، متى تبدأ حياتي؟ على اسم فدوى طوقان اسمي، ولكني بالداخل فوضى وطوفان …منذ زمن بعيد بدأت "فوضتي"، بين وعي الطفولة وحيرة الوعي. كتبت كلماتي المرتبكة قبلك في ذهني بالإنجليزية، بالعربية، بألوان جديدة، اخترعتها خصيصاً لترسم الواني، واكتبها هنا دون تسجيل التاريخ عنواناً لحياتي الخارجة عن التاريخ .. امضي في اللا تاريخ، لا يحس الوجود بوجودي، ولا يفتقد الغياب غيابي. عشت حياتي كلها مبعثرة بين مدن عربية، لا تشعر فيها بالعروبة، ومدن أجنبية لك الحق فيها بان تشعر بما تريد. لا انتمي إلى أية مدينة، أو حارة بمدينة، أو جدران بيت، أو تراب. غجرية احمل ذكرياتي في بقجة، وعلى روحي يزداد تراكم الغبار مع كل رحلة جديدة. اترك خلفي صدى صوتي، ليذوب في اللامكان، وآثار خطواتي على تراب الشاطئ، لتبتلعها أمواج اللازمان. وعندما أتوقف لحظة لالتقط أنفاسي، انظر خلفي، فلا أرى شيئا يدل على عبوري. لكني عندما أَُسأل من أين أنا، أجاوب بكل حماس، باني فلسطينية. نعم فلسطينية! البس فلسطينيتي كقميص قيم قديم، أدفئ به وجودي. أكمامه طويلة، وأكتافه اعرض من أكتافي. قميص لا أعرف متي لبسته أو لبسني، وقلقة امشي، متوترة، مندفعة، حذرة، حائرة، فلا أجد ما ينال إعجابي، ولا ما يرحني. كلما انتقلت إلى مكان جديد، اذكر، بحرارة وحنين، المكان القديم، الذي لم ينل إعجابي وقتها، ولم يرحني!! وأينما ذهبت، حاصرتني مفردات وألقاب تخيفني، تزيدني قلقاً وتوتراً، تحشرني في علبة ضيقة، تُحشر بدورها داخل علبة هي الأخرى ضيقة، ثم أخرى، وأخرى .. كالدمى الروسية الخشبية التقليدية. فمنذ أن وعيت وأنا أتحسس طريقي عبر شظايا كلمة "فلسطيني": فهناك عرب فلسطين، عرب إسرائيل، عرب 48، فلسطيني بجنسية عربية، فلسطيني بجنسية غربية. فلسطيني عائد من الكويت، فلسطيني هارب من الكويت، فلسطيني هارب من العراق، فلسطيني بجواز سفر، فلسطيني بوثيقة، فلسطيني بوثيقة وبطاقة. هناك إرهابي، ووطني، وانتحاري، واستشهادي، هناك فلسطيني لا يعرف فلسطين. وهناك أنا وقميصي، قميصي المنسوج بخيوط رقيقة من ذكريات أبي، من قصص جدي. قميصي الذي تلوثه العنصرية، وينهشه الترحال. لكم تمنيت أن أبقى طوال حياتي في زاوية واحدة، احفظها وتحفظني، إذا بعدت عنها اشتاق حتى إلى براميل القمامة فيها! * * * زاويتي فقط قميصي. حدودي فقط قميصي. كفني فقط قميصي، فلا تساوي، حتى في الموت .. أدركت ذلك عندما توفى عمي الذي تشبع من مدينته القدس، وتشرب منها. إن غادرها أياماً، تسربت من أصابعه، وريقه، رائحتها. كتب تاريخه في آلام تاريخها، وحملت مدينته نعشه على أكتافها. أما أنا، فسأنتهي غريبة في بلد غريب، حتى لو شاء القدر أن يكون ذلك في فلسطين. فبالرغم من قميصي، فأنا غريبة عنها، وغريبة هي عني. لن تعرفني. سترفضني، مثلما يرفض الجسم أعضاء غريبة، زرعت أثناء عملية جراحية. سألوث تربتها. سأدفنك قبل أن أُدفن يا دفتري. سأكفنك أنت بما تبقى من قميصي الذي كنت أنكمش بداخله، والآن ينكمش هو بداخلي. سأدفنك تحت أول شجرة زيتون أقابلها في طريقي. ما كتبت فيك إلا وأنا حزينة، وقد كتبت فيك كثيراً. أنت الحائط الذي مارست عليه حرية الكتابة بحرية، وحريتي لم تكن سوى مساحة تلك الصفحات. أنت لا تعرف عني سوى ما عكرت به صفو بياضك، فقد حفرت بك - بفأس حروفي - بئراً لآلامي. احتويت خوائي، بل انك كنت تنتظر لقاءنا، كل غروب شمس. لقد أفرغت نفسي فيك، يا دفتري، فأين يذهب الآن فراغي؟ لم يبقى مني سوى أحرف تبلل قدمي. أنحي لأجففها، دون جدوى. أحرفي كثيرة، وقميصي لم يعد يحتمل، لكثر ما رقعته، ورقعته. كم خشيت نهاتي هذه منذ البداية! كم خشيت أن لا أجد سوى الرقع عندما أكبر! كبرت، يا دفتري، ولم يكبر قميصي. ومهما غسلته، لا يعود أبداً ناصع البياض. أرتديه، فأبرد. أبرد، يا دفتري، أبرد ولا أتخلى عنه. كل الموانئ عرفتني، نعم، وكل مطار، وما زلت هناك أنا، أكتب في غرفة الانتظار. فدوى القاسم نشرت في مجلة الآداب العدد 8+9+10/2005 ونشرت في كيكا Leave a Reply. |
AuthorWrite something about yourself. No need to be fancy, just an overview. Archives
March 2024
Categories |
|
Art |
Buy |
(c) Copyright Fadwa Al Qasem 2024