من مجموعة رائحة حب الهال
أرقُ من رقراق السراب (1) وأخيراً جاء يوم الأربعاء. التقيا وجهاً لوجه بعد طول انتظار. كان مشوارهما قد بدأ، قبل ستة أشهر، في منتديات الدردشة. وفي إحدى غرف الحوار الخاصة، حيث عرّت أمامه روحها. لم يخطر ببالها أنها ستأخذ منعطفاً جديداً، وأن الطريق سيلتوي بها فيأخذها إلى تفرعات تفاؤلية متهورة. لم يخطر ببالها أنها ستضيع. فقط عندما رأته أمامها استطاعت أن تتنفس مرة أخرى. ارتمت في حضنه، كأنها تعرفه الدهر كله. أول مرة تراه، وعرفته فوراً. عيناه، ابتسامته.. إنه عاطف، واقع وليس خيالاً، رجل دافئ، حنون، رقيق، كاسمه. قبّل يديها المرتجفتين. قبّل عنقها. ذابت بين شفتيه. احمرّت ونضجت أمام عينيه. ببطء عذب معذب، حرر جسدها الرطب من سجن ملابسها. أطلقت عبيرها كفاكهة شهية وقعت آخر قشورها إلى الأرض. وبعطش شرب رحيقها الأنثوي. استنفذ. مات وعاش. ذابت، وامتصتها خلاياه. كانت أول مرّة بالنسبة لها، لكنها كانت معه بدون خجل، بدون خوف، بدون تردد. كأنها كانت له في حياة سابقة. حدسها يرشدها عبر مساحات رجولته. كم كانت رائحة جسده مثيرة ومخدرة. (2) أخيراً جاء الأربعاء. التقيا بعد طول انتظار. ارتمت بحضنه. قبّلها. حررها من ملابسها. استنشقت أريج جسده. لم تفلت منهما ثانية. كأن الوقت اختصر نفسه. بالأمس فقط كانت الساعة 60 دقيقة كاملة، ماذا جرى لها الآن؟ اختُزلت الساعة، ولم يتبقّ منها سوى بضعة لحظات، تكفي لسيجارة مشتركة. كانا يشعران بأنهما في منأى عن فعل الزمن. أصبح لقاء الأربعاء تواطئياً، اتفقا عليه، دونما اتفاق. ينتظرها وتنتظره. يلتقيان بدون الحاجة لترتيب اللقاء. يجدها إن أتى، وتجده إن أتت. كوخ مهجور على حافة الأمواج، تختلط فيه أملاح جسديهما. لا شئ ذا أهمية يحدث بين الأربعاء والأربعاء. لا شئ سوى ملء الخواء بين لقاء ولقاء. كم كانت بطيئة تلك الأيام، وخاطفة تلك اللقاءات. (3) أخيراً جاء الأربعاء. التقيا. قبّلها. جلست في حضنه، وغنت لهما مياه البحر المائج. حدثها عن أول كتاب قرأه باختياره. كان لكاتب كولومبي، لم يكن يعرف كيف يلفظ اسمه. حدثها عن أول قبلة شاهدها في السينما، وكيف هجم جميع أبناء صفه لمشاهدة الفيلم، وأنه لا يذكر الآن اسم الفيلم ولا قصته.. لكنه يذكر تفاصيل القبلة بوضوح، وأنه حاول عدة مرات تقليدها مع صديقاته. كانت تجمع كلماته، زهوراً برية، تنمو حيثما تشاء، وتضعها في إناء لا تتعكر فيه المياه. كانت في حضنه طوال الوقت، وكان يمرر يده تحت شعرها، وعلى عنقها وظهرها، فتحترق برغباتها.. لكنها لم تبادره بها، تتركه يتحدث إليها كيفما يشاء. (4) جاء الأربعاء، والتقيا. جلست قربه. طبع على يدها قبلة روتينية. بدأ يتحدث عن طفولته وعن والدته التي توفيت منذ زمن بعيد، بالكاد يذكرها. حدثها عن والده الذي حاول تعويض حنان الأم، بالقسوة عليهم. كانت تريد أن تحكي له عن الليالي المقمرة التي أمضتها وحدها، وعن وحدتها قبله. وعن مشاعرها عندما منحته نفسها. كانت تريد أن تشعر بأنها هنا بقربه، وأنه يشعر بدنوّها منه، تريد لشعور الوحدة أن يطلق سراحها. لم يكن هناك مجال للمشاركة، تحدّث وحده، وتحدّث طويلاً، وصَمْتُ جسديهما يترك فراغاً ضبابياً بينهما. يدها في يده طوال الوقت، دافئة، متوترة، مترقبة.. مثلها، ولكن هربت منها نظرة لساعة يدها. (5) جاء الأربعاء، والتقيا كالعادة. جلست كلمة "كالعادة" بينهما. لقد كان لقاءهما الخامس، أو ربما السابع. متى بدأت اللقاءات تتبنى أرقاماً؟ قبلاته بلا روح، وحديثه يطول. شعرت بإلفة المكان. ثمة رائحة كريهة يطلقها البحر، والغبار يعلو حولهما عندما يجلسان على الكنبة. شعرت برغبة شاذة بتنظيف المكان، أو ربما بتحضير العشاء. يلعب بها الزمن، فقد أصبحت الساعة الواحدة بمليون دقيقة. (6) مر الأربعاء، بدون لقاء. تحول الشوق إلى قلق، بعد آخر أربعاء. ترى هل انتظرها هناك؟ ترى هل سينتظرها الأربعاء القادم؟ وهل تذهب الأربعاء القادم؟ ذهبت. وذهب. الشعور بالذنب يحاصرها. ارتمت في حضنه وهي تشعر بأنها تمثل دوراً يتوقعه منها. قبّلها، خُيِّل لها بأنه هو أيضاً يلعب الدور المتوقع منه. لم يتحدثا عن الأسبوع الماضي. لم يتحدثا قط. مارسا الجنس أكثر منه الحب. (7) مر أسبوع آخر، على آخر لقاء. تمر الأيام بسرعة، بين الأربعاء والأربعاء، ويتباطأ مرورها ذلك اليوم تحديداً. لم تذهب. توقعت أن يكون هناك، بانتظارها. تألمت لعدم رغبتها بالذهاب، تألمت وهي تتخيله بانتظارها.. أسبوعان والندم يأكلها. ندم عدم اللقاء، وندم على أول لقاء. شعرت أنها تمشى إلى الأمام بظهرها، ووجهها دائماً ينظر إلى الخلف. (8) جاء يوم الأربعاء. ذهبت. بقيت في السيارة سنوات. رآها من خلف الشباك، وقد جعل نفسه خيال شبح، راجياً أن لا تراه. لم يستطع تحديد قراره بالذهاب هذه المرة. فقد مرت الأسابيع، بدون أن تكون له رغبة بالذهاب، رغم أن التفكير بالذهاب أو عدمه كان يشغله. وهاهو ينظر إليها عبر الزجاج، ربما كانت تبكي، أو ربما كانت مترددة لأنها لم تجده في المرات السابقة. كان بوده أن يعتذر لها. كان بوده أن يرسل رسالة لها، "ماسج"، مثلما كان يفعل في منتديات الدردشة، حيث تعارفا. كان بوده أن يقول لها أن لا تحزن، وأنها رائعة، وجميلة. وأنها سوف تجد من هو أحق منه لتمنحه نفسها. كان يريد أن يكون خلف الشاشة، وليس خلف الشباك. شعرت أنهما وصلا إلى نهاية تشاؤمية حزينة. من الذي سيبلغ الآخر قبل نهاية العالم بثوان؟ خرجت من السيارة. اتجهت نحو الكوخ، كم كان صغيراً، وملوثاً. وقفت أمام الباب، ووقف هو خلف الباب، يداه على المقبض … Leave a Reply. |
AuthorWrite something about yourself. No need to be fancy, just an overview. Archives
March 2024
Categories |
|
Art |
Buy |
(c) Copyright Fadwa Al Qasem 2024