الأربعاء 22 شباط: القرار
سأزور فلسطين أخيراً. قد يبدو القرار وليد اللحظة لمن حولي، وأحياناً بالنسبة إليَّ. لكنه في الحقيقة ثمرة عقود طويلة من التأمل والتفكير والانتظار. نضج ببطء شديد، على نار هادئة جداً، كانت تتّقد في أعماق روحي. يتوهج حيناً ليلسعني، بتحريض من نسيبتي، ثم يعود ليقبع في زاوية ما تعثرت فيها كثيراً. وإن أردت أن أكون صادقة تماماً، فعليَّ أن أعترف: أولاً، لم أر الجدوى في زيارة بلد أنتمي إليه لكنني لا أعرفه، ما التغيير الذي ستحدثه هذا الزيارة لي أو لغيري؟ ثانياً، كنت أخشى الوقوف وجهاً لوجه أمام الإسرائيلي: ناسه وجيشه ونقاط تفتيشه وأسلحته واحتلاله. ثالثاً، كنت أخشى من نفسي. ماذا لو تخدرت مشاعري؟ ماذا لو شعرت بأنني مختلفة جداً؟ ماذا لو لم أشعر بالانتماء؟ ماذا لو لم أحب البلاد؟ وماذا بعد المغادرة؟ أعترف بأن الخوف تملّكني، وأيضاً الشعور بالذنب. لماذا الآن؟ هل هو العمر والنضج؟ العودة إلى الجذور؟ أعتقد أنني كنت بحاجة إلى كسر حواجز الخوف في داخلي، وأن أمارس حقي في العودة، ولو موقتاً وبشكل مختصر.
اتخذت القرار عندما التقيت مع إيمان من صندوق إغاثة أطفال فلسطين، مساء يوم الأربعاء، 22 شباط 2012. أخبرتني أن مجموعة من النساء ستتوجه إلى فلسطين في شهر آذار، وسألتني إن كنت أرغب بالانضمام إليهن. نعم. كنت أرغب. لكنني في النهاية، ذهبت وحدي. للأسف، لم أتمكن من مقابلتهن في فلسطين. وعلى الرغم من أنني لا أزال أرغب بالتعرف إلى مجموعة النساء هذه التي تبدو لي مثيرة جداً للاهتمام، إلا أنني سعيدة بكوني خضت هذه الرحلة وحدي.
اتخذت القرار عندما التقيت مع إيمان من صندوق إغاثة أطفال فلسطين، مساء يوم الأربعاء، 22 شباط 2012. أخبرتني أن مجموعة من النساء ستتوجه إلى فلسطين في شهر آذار، وسألتني إن كنت أرغب بالانضمام إليهن. نعم. كنت أرغب. لكنني في النهاية، ذهبت وحدي. للأسف، لم أتمكن من مقابلتهن في فلسطين. وعلى الرغم من أنني لا أزال أرغب بالتعرف إلى مجموعة النساء هذه التي تبدو لي مثيرة جداً للاهتمام، إلا أنني سعيدة بكوني خضت هذه الرحلة وحدي.
سأعبر هذا الجسر
نقطة العبور في جسر الملك حسين المعروف شعبياً بجسر اللنبي، لم تكن سوى قاعة مستطيلة. منضدة طويلة بنوافذ عدة، أمام المدخل، جلس أو وقف خلفها ربما خمسة موظفي هجرة، ومهجع لا يتسع لأربعة أفراد، جلس فيه خمسة يشاهدون التلفاز ويتفرجون علينا ونتفرج عليهم. هو مكتب السياحة، إن لم أكن مخطئة. في الزاوية المقابلة، مجموعة كراس على شكل مربع، موحية لنا أنها غرفة انتظار تطل على كافيتيريا تقدم مأكولات خفيفة لا تفتح النفس
جواز سفري، الذي قدمته من خلال أقرب نافذة، انتقل من يد إلى يد خلف الزجاج، بهدوء، باحترافية. تابعته من الجانب الآخر للزجاج، متنقلة ذهاباً وإياباً بين النوافذ، حتى فقدته! بعد الاستفسار، فهمت أنني حصلت على موافقة للسفر، وأن جواز سفري سيبقى مع الضباط حتى أصعد إلى الحافلة. أدركت في ما بعد أنهم وضعوا ختم الهجرة على قصاصة، وليس على جواز سفري
هناك كنت، أنا الفلسطينية، الليبية المولد، الكندية الجنسية، أنتظر الحافلة لأدخل بلادي فلسطين كزائرة. وعلى رغم أنني سأعبر الجسر من دولة عربية، عوض استخدام مطار بن غوريون، مثلاً، فيكفي لختم يشي بدخولي "إسرائيل"، أن يمنعني من العودة إلى حيث أقيم، ولأن يعامل على أنه "تطبيع". إذاً، كيف أزور بلدي، ومن أين؟
خرجت من القاعة، لأنتظر في الهواء الطلق. كنت سعيدة بوجود بعض الأقارب معي. انتظرنا وانتظرنا وانتظرنا. كان هناك آخرون ينتظرون: عرب، فلسطينيون، أجانب، سياح... وأنا المزيج من ذلك كله
ستصل الحافلة خلال 10 دقائق. قيل لنا ذلك مرات.عدة
وصلت الحافلة بعد نحو 150 دقيقة. صعدت ومعي حقيبتي وجواز سفري وقصاصة الختم وخفقان قلبي وتوتري. وانطلقنا
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
جواز سفري، الذي قدمته من خلال أقرب نافذة، انتقل من يد إلى يد خلف الزجاج، بهدوء، باحترافية. تابعته من الجانب الآخر للزجاج، متنقلة ذهاباً وإياباً بين النوافذ، حتى فقدته! بعد الاستفسار، فهمت أنني حصلت على موافقة للسفر، وأن جواز سفري سيبقى مع الضباط حتى أصعد إلى الحافلة. أدركت في ما بعد أنهم وضعوا ختم الهجرة على قصاصة، وليس على جواز سفري
هناك كنت، أنا الفلسطينية، الليبية المولد، الكندية الجنسية، أنتظر الحافلة لأدخل بلادي فلسطين كزائرة. وعلى رغم أنني سأعبر الجسر من دولة عربية، عوض استخدام مطار بن غوريون، مثلاً، فيكفي لختم يشي بدخولي "إسرائيل"، أن يمنعني من العودة إلى حيث أقيم، ولأن يعامل على أنه "تطبيع". إذاً، كيف أزور بلدي، ومن أين؟
خرجت من القاعة، لأنتظر في الهواء الطلق. كنت سعيدة بوجود بعض الأقارب معي. انتظرنا وانتظرنا وانتظرنا. كان هناك آخرون ينتظرون: عرب، فلسطينيون، أجانب، سياح... وأنا المزيج من ذلك كله
ستصل الحافلة خلال 10 دقائق. قيل لنا ذلك مرات.عدة
وصلت الحافلة بعد نحو 150 دقيقة. صعدت ومعي حقيبتي وجواز سفري وقصاصة الختم وخفقان قلبي وتوتري. وانطلقنا
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
الجانب الآخر
عشرة أفراد على متن حافلة صغيرة. فقدتُ توتري، فلم يعد في حياتي سوى هذه اللحظة، الآن. وكل شيء منذ الآن بات طبيعيّاً وسورياليّاً في الوقت نفسه. جلستُ في مواجهة الخلف. رغبتُ بالتحدث مع الرجل الجالس بجانبي، والرجل الجالس أمامي. أردت أن أسألهما عما يمكنني توقعه. لم أرغب بأن أذكر أن هذه أولى زياراتي. بدأت أشعر ببعض الحرج من هذه الحقيقة
إن كنتِ تنوين زيارة أماكن عدة، فلا تذكري ذلك. نصحني الرجل الجالس أمامي. بالكاد تحققتُ من وجود مياه تحت الجسر الذي نعبره (لم يكن هناك مياه)، قبل أن نكون قد عبرناه بالفعل
أهذا هو؟ تساءلتُ
هذا هو! جاءني الرد
كان آخرون قد وصلوا قبلنا. كانوا يقفون ككلتة واحدة، مجموعة مع حقائبهم، تحولت شيئاً فشيئاً إلى طابور. انضممنا إليهم عندما سُمح لنا بالنزول من الحافلة
إلى يساري بعضٌ من أفراد الجيش الإسرائيلي. قمصان صوفية زرقاء، سترات واقية من الرصاص، بناطيل عسكرية: مشهد من فيلم؟ كهل ومعه شاب وشابة، مجرد مراهقين، تدلت الرشاشات من الكتف لتصل إلى تحت الركبة. يمارسون ضبط النفس، بلا شك
تتدفق الكتلة البشرية ببطء، كلما سمح لنا الضباط الإسرائيليون بالمرور عبر حاجز صغير وفي دفعات أيضاً صغيرة. أمامي رجل يشكو أنه لا يحمل أمتعة على الإطلاق، لأنه جاء في زيارة مدتها يوم واحد فقط. عرضتُ عليه، مازحة، أن يأخذ إحدى حقائبي (لم ألحظ الكاميرات في كل مكان، ونسيت أن نكتة كهذه ليست مضحكة في ظروف كهذه. اقتربنا نحو كشك يجلس في داخله ضابط الهجرة، الذي عاين وثائقنا سريعاً، لكن بتمعن واضح. عبرت أمتعتنا، ونحن أيضاً، من خلال أجهزة الكشف عن المعادن. كنت قد اتخذت بعض الاحتياطات مثل عدم ارتداء المجوهرات، أو حزام، ووضعت كل ما لديَّ من قطع معدنية نقدية وهاتفي النقال في حقيبتي. اجتزت أول مرحلة بسرعة. لم تفتَّش حقائبي، لكن البعض تم إيقافهم وفتح حقائبهم وتفتيشها. فاجأني أحد الموظفين الإسرائليين بابتسامة غزل. لم يخطر بباله بالتأكيد أنني فلسطينية. أتذكر مقاطع من قصيدة محمود درويش
هُوَ هادِئٌ، وأنا كذلكَ/ يَحْتَسي شاياً بليمونٍ،/ وأَشربُ قهوةً،/ هذا هُوَ الشيءُ المغايرُ بَيْنَنَا./ هو لا يراني حين أنظرُ خِلْسَةً،/ أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً،/ أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ/ وأكثرُ زرقةً./ هو لا يقول لي: السماءُ اليومَ صافيةٌ./ أدندنُ لحن أغنيةٍ،/ يدندن لحنَ أُغنية مُشَابهةٍ./ أفكِّرُ: هل هو المرآةُ أبصر فيه نفسي؟/ ثم أَنظر نحو عينيه،/ ولكن لا أراهُ.../ فأتركُ المقهى على عَجَلٍ./ أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ، أو رُبّما/ هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ/ هو خائِفٌ، وأنا كذلكْ!
لم أردّ الابتسامة. أخذتُ حقائبي وتوجهتُ نحو موظفي الهجرة
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
إن كنتِ تنوين زيارة أماكن عدة، فلا تذكري ذلك. نصحني الرجل الجالس أمامي. بالكاد تحققتُ من وجود مياه تحت الجسر الذي نعبره (لم يكن هناك مياه)، قبل أن نكون قد عبرناه بالفعل
أهذا هو؟ تساءلتُ
هذا هو! جاءني الرد
كان آخرون قد وصلوا قبلنا. كانوا يقفون ككلتة واحدة، مجموعة مع حقائبهم، تحولت شيئاً فشيئاً إلى طابور. انضممنا إليهم عندما سُمح لنا بالنزول من الحافلة
إلى يساري بعضٌ من أفراد الجيش الإسرائيلي. قمصان صوفية زرقاء، سترات واقية من الرصاص، بناطيل عسكرية: مشهد من فيلم؟ كهل ومعه شاب وشابة، مجرد مراهقين، تدلت الرشاشات من الكتف لتصل إلى تحت الركبة. يمارسون ضبط النفس، بلا شك
تتدفق الكتلة البشرية ببطء، كلما سمح لنا الضباط الإسرائيليون بالمرور عبر حاجز صغير وفي دفعات أيضاً صغيرة. أمامي رجل يشكو أنه لا يحمل أمتعة على الإطلاق، لأنه جاء في زيارة مدتها يوم واحد فقط. عرضتُ عليه، مازحة، أن يأخذ إحدى حقائبي (لم ألحظ الكاميرات في كل مكان، ونسيت أن نكتة كهذه ليست مضحكة في ظروف كهذه. اقتربنا نحو كشك يجلس في داخله ضابط الهجرة، الذي عاين وثائقنا سريعاً، لكن بتمعن واضح. عبرت أمتعتنا، ونحن أيضاً، من خلال أجهزة الكشف عن المعادن. كنت قد اتخذت بعض الاحتياطات مثل عدم ارتداء المجوهرات، أو حزام، ووضعت كل ما لديَّ من قطع معدنية نقدية وهاتفي النقال في حقيبتي. اجتزت أول مرحلة بسرعة. لم تفتَّش حقائبي، لكن البعض تم إيقافهم وفتح حقائبهم وتفتيشها. فاجأني أحد الموظفين الإسرائليين بابتسامة غزل. لم يخطر بباله بالتأكيد أنني فلسطينية. أتذكر مقاطع من قصيدة محمود درويش
هُوَ هادِئٌ، وأنا كذلكَ/ يَحْتَسي شاياً بليمونٍ،/ وأَشربُ قهوةً،/ هذا هُوَ الشيءُ المغايرُ بَيْنَنَا./ هو لا يراني حين أنظرُ خِلْسَةً،/ أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً،/ أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ/ وأكثرُ زرقةً./ هو لا يقول لي: السماءُ اليومَ صافيةٌ./ أدندنُ لحن أغنيةٍ،/ يدندن لحنَ أُغنية مُشَابهةٍ./ أفكِّرُ: هل هو المرآةُ أبصر فيه نفسي؟/ ثم أَنظر نحو عينيه،/ ولكن لا أراهُ.../ فأتركُ المقهى على عَجَلٍ./ أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ، أو رُبّما/ هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ/ هو خائِفٌ، وأنا كذلكْ!
لم أردّ الابتسامة. أخذتُ حقائبي وتوجهتُ نحو موظفي الهجرة
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
مخرز تحت أنوفهم
رجاء، لا تختمي جواز سفري، قلت لها. وربما لأن طلبي هذا بدا أقرب إلى الأمر، أجابتني ضابطة الهجرة بتحدّ: لماذا؟!
ثم سرعان ما أتت باقي الأسئلة: سبب زيارتك؟ زيارتك الأولى؟ وحدك؟ أجبتها نعم، وحدي. إذأ من هذا الذي كنت تتحدثين إليه؟ أوه، طبعاً، الكاميرات والمايكروفونات في كل مكان. كنا معاً في الطابور، فتحدثنا.
وأين تذهبين أثناء زيارتك؟ القدس فقط؟ أين تقيمين؟ من تزورين؟ ما أسماؤهم؟ أرقام هواتفهم؟ كرري الرقم. 456؟ مرة أخرى. املأي هذه الاستمارة وانتظري هناك، سيأتيك أحدهم.
أملأ الاستمارة. أتجاهل تعليماتها، أعود إليها، هاك الطلب مكتملاً. لا، عليك أن تجلسي وتنتظري هناك.
أجلس. أنتظر.
عشر دقائق. يقترب مني رجل، ملامحه جدية تتخللها لمسة تحاول أن تكون ودية. سبب زيارتك؟ زيارتك الأولى؟ وحدك؟ أين تقيمين؟ من تزورين؟ منزل حميّ. وحدك؟ نعم. وحدك لزيارة منزل حميك؟ أفكر: هل من قانون يمنع زيارة أهل الزوج بدون رفقة الزوج، أم غبي من يقدم على زيارة كهذه؟ إذن تزورين منزل حميك وحدك؟ نعم. أين هو زوجك؟ حسناً، انتظري هنا.
أنتظر.
عشر دقائق. يعود. ما هو عملك؟ هذه شركتك؟ أين تسكنين؟ منذ متى؟ هل هذا إيميلك؟ هجّئي العنوان. حسناً، انتظري هنا.
أنتظر.
عشر دقائق. موظفة جديدة تقترب مني، تلك التي تنظّم طابور القادمين. تعالي معي: قالت. لكن قيل لي أن ننتظر هنا. لا، تعالي معي. لكنه قال لي أن ننتظر هنا، ربما يعود ولا يجدني. بدأت تفقد أعصابها. هذه وظيفتي، وأنا أعرف ما أفعله! تعالي معي. ذهبتُ معها. أخذتني إلى قاعة كبرى فيها العديد من الكراسي، وآخرون واقفون، جالسون، متوترون، ينتظرون. انتظري هنا، قالت.
أنتظر.
أُخرج الصوف والمخرز من حقيبتي، وأبدأً بشغل الكروشيه. ليس لديَّ ما أخفيه، لكن التوتر يسكنني. تساعدني حركات الحياكة على أن أبدو غير مكترثة وهادئة. لا شك أن القلق بدأ يساور الأهل والأقارب الآن.
أنتظر. أشتغل الكروشيه.
عشر دقائق. يعود إليَّ الرجل. ما اسم زوجك؟ هل تعرفين اسم والده؟ متى وُلد؟ أجيبه باستغباء لئيم: متى وُلد والده؟ لا، لا، زوجك، وهل كان من سكان القدس؟ حسنا، انتظري هنا.
يتحول توتري إلى قلق. أتصل بزوجي على هاتفي النقال (نعم، أعلم، أنهم يشاهدون ويستمعون أيضاً).
أخبرته: يسألونني عنك. قال: وإن يكن. قلت: حسناً، إذاً بلّغ الجميع أنني لا أزال هنا أنتظر.
أنتظر. أشتغل الكروشيه.
عشر دقائق. عشرون.
فوضى؟ كأن ضابطة الهجرة تناديني أنا. نعم، نعم، أجيبها. أنا فوضى. تعطيني جواز سفري. أتوجه نحو المخرج. أعبر برجل فلسطيني مسن ينتظر دوره لإنهاء إجراءات الدخول. أسأله: أين المخرج؟ يشير بالسبابة إلى مترين أمامه حيث المخرج وهو يتمتم: الله يحميك يا بنتي، الله يفتحها في وجهك، الله يكون معك.
أعبر فاصلاً بلاستيكياً إلى الخارج. وصلت. هذه القدس. إنه يوم حارّ ومغبر. الساعة السادسة والنصف مساء. أدحرج خلفي حقيبتي وتتدحرج على وجهي دموعي.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
ثم سرعان ما أتت باقي الأسئلة: سبب زيارتك؟ زيارتك الأولى؟ وحدك؟ أجبتها نعم، وحدي. إذأ من هذا الذي كنت تتحدثين إليه؟ أوه، طبعاً، الكاميرات والمايكروفونات في كل مكان. كنا معاً في الطابور، فتحدثنا.
وأين تذهبين أثناء زيارتك؟ القدس فقط؟ أين تقيمين؟ من تزورين؟ ما أسماؤهم؟ أرقام هواتفهم؟ كرري الرقم. 456؟ مرة أخرى. املأي هذه الاستمارة وانتظري هناك، سيأتيك أحدهم.
أملأ الاستمارة. أتجاهل تعليماتها، أعود إليها، هاك الطلب مكتملاً. لا، عليك أن تجلسي وتنتظري هناك.
أجلس. أنتظر.
عشر دقائق. يقترب مني رجل، ملامحه جدية تتخللها لمسة تحاول أن تكون ودية. سبب زيارتك؟ زيارتك الأولى؟ وحدك؟ أين تقيمين؟ من تزورين؟ منزل حميّ. وحدك؟ نعم. وحدك لزيارة منزل حميك؟ أفكر: هل من قانون يمنع زيارة أهل الزوج بدون رفقة الزوج، أم غبي من يقدم على زيارة كهذه؟ إذن تزورين منزل حميك وحدك؟ نعم. أين هو زوجك؟ حسناً، انتظري هنا.
أنتظر.
عشر دقائق. يعود. ما هو عملك؟ هذه شركتك؟ أين تسكنين؟ منذ متى؟ هل هذا إيميلك؟ هجّئي العنوان. حسناً، انتظري هنا.
أنتظر.
عشر دقائق. موظفة جديدة تقترب مني، تلك التي تنظّم طابور القادمين. تعالي معي: قالت. لكن قيل لي أن ننتظر هنا. لا، تعالي معي. لكنه قال لي أن ننتظر هنا، ربما يعود ولا يجدني. بدأت تفقد أعصابها. هذه وظيفتي، وأنا أعرف ما أفعله! تعالي معي. ذهبتُ معها. أخذتني إلى قاعة كبرى فيها العديد من الكراسي، وآخرون واقفون، جالسون، متوترون، ينتظرون. انتظري هنا، قالت.
أنتظر.
أُخرج الصوف والمخرز من حقيبتي، وأبدأً بشغل الكروشيه. ليس لديَّ ما أخفيه، لكن التوتر يسكنني. تساعدني حركات الحياكة على أن أبدو غير مكترثة وهادئة. لا شك أن القلق بدأ يساور الأهل والأقارب الآن.
أنتظر. أشتغل الكروشيه.
عشر دقائق. يعود إليَّ الرجل. ما اسم زوجك؟ هل تعرفين اسم والده؟ متى وُلد؟ أجيبه باستغباء لئيم: متى وُلد والده؟ لا، لا، زوجك، وهل كان من سكان القدس؟ حسنا، انتظري هنا.
يتحول توتري إلى قلق. أتصل بزوجي على هاتفي النقال (نعم، أعلم، أنهم يشاهدون ويستمعون أيضاً).
أخبرته: يسألونني عنك. قال: وإن يكن. قلت: حسناً، إذاً بلّغ الجميع أنني لا أزال هنا أنتظر.
أنتظر. أشتغل الكروشيه.
عشر دقائق. عشرون.
فوضى؟ كأن ضابطة الهجرة تناديني أنا. نعم، نعم، أجيبها. أنا فوضى. تعطيني جواز سفري. أتوجه نحو المخرج. أعبر برجل فلسطيني مسن ينتظر دوره لإنهاء إجراءات الدخول. أسأله: أين المخرج؟ يشير بالسبابة إلى مترين أمامه حيث المخرج وهو يتمتم: الله يحميك يا بنتي، الله يفتحها في وجهك، الله يكون معك.
أعبر فاصلاً بلاستيكياً إلى الخارج. وصلت. هذه القدس. إنه يوم حارّ ومغبر. الساعة السادسة والنصف مساء. أدحرج خلفي حقيبتي وتتدحرج على وجهي دموعي.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
السياحة ليست خياراً
لا يمكنك أن تأتي إلى القدس بعيون مغمضة، بقلب منغلق، بعقل متحجر. إن كنت تبحث عن هذا النوع من "الزيارات"، فسافر إلى اليونان. هنا في القدس توجد جدران، جدران ضخمة، بكل معنى الكلمة. جدران ضخمة تفصل، تعزل، تسجن، تخلق واقعاً جديداً، متقلباً، متغيراً، في حياة الفلسطينيين. الجدار، نعم، نعم، نعرف القصة، لكنه ليس جداراً بل جدران؛ ولن تدرك ولن تتمكن من أن تستوعب إلى أي مدى تفرض وجودها ما لم تقف تحتها، أمامها، ما لم تلمسها، ما لم تشمها، ما لم ترها من أعلى، من أسفل. جدران ضخمة غير شرعية وفقاً للقوانين الدولية.
وجدتُ نفسي وجهاً لوجه أمام أحدها عندنا نزلت من حافلة الجولات السياسية. ها هو. جدار شاهق، إسمنتي، خانق، يشد قبضته على أحياء وقرى، تعلوه أسلاك شائكة تثقب السماء، تحرقك كأصفاد في معصميك. إن استيقظت يوماً ووجدت نفسك "داخل" الجدار، فيجب عليك البقاء داخل الجدار. ستجد أنك تحتاج إلى تصاريح من الحكومة الإسرائيلية، تصاريح صعبة المنال؛ ستجد أنك تعيش حياة يهيمن عليها إسمنتٌ زُرع غصباً عنه، على أرضك، أرض أجدادك، في تربة تعتبرها الغالبية العظمى من البشرية تربة مقدسة.
هناك أيضاً جدار يحيط بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين. مخيم شعفاط مثلاً. مخيمات في فلسطين يقطنها لاجئون فلسطينيون. حوالى تسعة عشر مخيماً في فلسطين. نعم. تسعة عشر! أو قد يصبح الجدار، أثناء مسيرته الساحقة، جزءاً لا يتجزأ من بيتك. فإذا وقع منزلك على دربه، فقد تتكرم عليك الحكومة الإسرائيلية "بسخاء" لتعطيك خيارين: إما أن تهدم، على نفقتك الخاصة، بيتك الذي هو على الأرجح بيت العائلة منذ عقود عديدة، وإما أن تصبح إحدى واجهات بيتك جزءاً من الجدار. قضبان حديد على نوافذ أغلقت إلى الأبد. فجأة يصبح جارك أبعد من سطح القمر. قد يكون حظك أسوأ من ذلك. زرت أم نبيل وأم محمود، الأولى مسنّة والثانية في منتصف العمر، تمضيان معظم ساعات نهارهما جالستين على مقاعد بلاستيكية بيضاء في الساحة الأمامية، محاطتين بصديقاتهما. تجلس النساء وخلفهن منزل صغير من طبقة واحدة، أمامهن منزل آخر ذو طبقتين. المنزل خلفهن كانت تملكه عائلة أم نبيل، والمنزل أمامهن كانت تملكه عائلة أم محمود. عندما نظرتُ إلى أعلى، من مكاني على الرصيف، رأيت طفلين، عمراهما بين أربع وخمس سنوات، تتدلى أقدامهما الحافية من خلال قضبان النافذة في الطبقة الثانية. ثم انعطفت سيارة إلى الشارع، وتوقفت عند مدخل المنزل. خرج منها رجلان إسرائيليان. تجاهلانا، تكلما، استودع أحدهما الآخر، ثم دخل واحد المنزل. منزل أم محمود. منزل صادرته الحكومة الإسرائيلية، لتمنحه إلى عائلة يهودية قدمت من أوروبا، من سلالة يهودية لم يكن لها، على الأرجح، أي ارتباط تاريخي أو معنوي بفلسطين، ناهيك بأي ارتباط بهذا الحي، هذا الشارع، هذا البيت.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور: بعدستي
وجدتُ نفسي وجهاً لوجه أمام أحدها عندنا نزلت من حافلة الجولات السياسية. ها هو. جدار شاهق، إسمنتي، خانق، يشد قبضته على أحياء وقرى، تعلوه أسلاك شائكة تثقب السماء، تحرقك كأصفاد في معصميك. إن استيقظت يوماً ووجدت نفسك "داخل" الجدار، فيجب عليك البقاء داخل الجدار. ستجد أنك تحتاج إلى تصاريح من الحكومة الإسرائيلية، تصاريح صعبة المنال؛ ستجد أنك تعيش حياة يهيمن عليها إسمنتٌ زُرع غصباً عنه، على أرضك، أرض أجدادك، في تربة تعتبرها الغالبية العظمى من البشرية تربة مقدسة.
هناك أيضاً جدار يحيط بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين. مخيم شعفاط مثلاً. مخيمات في فلسطين يقطنها لاجئون فلسطينيون. حوالى تسعة عشر مخيماً في فلسطين. نعم. تسعة عشر! أو قد يصبح الجدار، أثناء مسيرته الساحقة، جزءاً لا يتجزأ من بيتك. فإذا وقع منزلك على دربه، فقد تتكرم عليك الحكومة الإسرائيلية "بسخاء" لتعطيك خيارين: إما أن تهدم، على نفقتك الخاصة، بيتك الذي هو على الأرجح بيت العائلة منذ عقود عديدة، وإما أن تصبح إحدى واجهات بيتك جزءاً من الجدار. قضبان حديد على نوافذ أغلقت إلى الأبد. فجأة يصبح جارك أبعد من سطح القمر. قد يكون حظك أسوأ من ذلك. زرت أم نبيل وأم محمود، الأولى مسنّة والثانية في منتصف العمر، تمضيان معظم ساعات نهارهما جالستين على مقاعد بلاستيكية بيضاء في الساحة الأمامية، محاطتين بصديقاتهما. تجلس النساء وخلفهن منزل صغير من طبقة واحدة، أمامهن منزل آخر ذو طبقتين. المنزل خلفهن كانت تملكه عائلة أم نبيل، والمنزل أمامهن كانت تملكه عائلة أم محمود. عندما نظرتُ إلى أعلى، من مكاني على الرصيف، رأيت طفلين، عمراهما بين أربع وخمس سنوات، تتدلى أقدامهما الحافية من خلال قضبان النافذة في الطبقة الثانية. ثم انعطفت سيارة إلى الشارع، وتوقفت عند مدخل المنزل. خرج منها رجلان إسرائيليان. تجاهلانا، تكلما، استودع أحدهما الآخر، ثم دخل واحد المنزل. منزل أم محمود. منزل صادرته الحكومة الإسرائيلية، لتمنحه إلى عائلة يهودية قدمت من أوروبا، من سلالة يهودية لم يكن لها، على الأرجح، أي ارتباط تاريخي أو معنوي بفلسطين، ناهيك بأي ارتباط بهذا الحي، هذا الشارع، هذا البيت.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور: بعدستي
حيث كنت سأكون
كأنني أتجول في مكانين في آن واحد. يلتحم بي شعور بأن كل شيء طبيعي ولا شيء طبيعياً إطلاقاً.
شهيق: أسمع لهجة فلسطينية مألوفة. زفير: أشاهد مجندين إسرائيليين في سن المراهقة يتجولون بالرشاشات في الشوارع والأماكن العامة، ويقفون على بوابات المساجد.
شهيق: أشاهد مدرّساً فلسطينياً محاطاً بتلامذته الصغار، يخبرهم عن تاريخ المدينة القديمة في القدس. زفير: أشاهد مدرّساً إسرائيلياً، محاطاً بتلامذته الصغار، لا أعرف ما يخبرهم، ولكن إذا ما أخذت في الاعتبار بعض ما تذكره شركات السياحة الإسرائيلية على الإنترنت، فهو ربما يخبرهم بالنسخة الإسرائيلية لتاريخ المدينة القديمة.
شهيق: أنا الفلسطينية أمشي في هذه الشوارع كغريبة. زفير: هم، الأغراب عن هذه الشوارع، يُزرعون كمواطنين أصليين.
شهيق: لقد نهبت. زفير: لقد نهبت.
ولدتُ في بلد، وتنقلتُ من دولة إلى أخرى باستمرار. حاولتُ أن اقحم ذاتي في معلّبات هويات وطنية، ربما رحبت بي نوعاً ما، لكنها خلقت بداخلي مشاعر متناقضة للانتماء. ما كان عليَّ أن أنفق جزءاً كبيراً من حياتي في البحث عن هوية أو انتماء يقبل بي. كان يجب أن تكون هويتي أمراً مفروغاً منه، مثلي مثل أي شخص آخر.
كان يجب أن أولد هنا. أن استنشق هذا الهواء الذي يحمل ذاكرة أسلافي وأسرارهم، وأن تكون أولى خطواتي على هذه التربة التي تتغذى من رفاتهم أشجار الزيتون العتيقة. كان يجب أن أحظى بطفولة عادية هنا. كان يجب أن تكون هذه الأرض ملعبي، وأن تجرح هذه الصخور ركبتي الطفلة الشقية التي كنتها.
كان لذكرياتي مع صديقتي الحميمة أن تكون هنا.
كان للقبلة الأولى أن تكون هنا.
كان للمرة الأولى تحطم فيها قلبي أن تكون هنا.
هنا.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
شهيق: أسمع لهجة فلسطينية مألوفة. زفير: أشاهد مجندين إسرائيليين في سن المراهقة يتجولون بالرشاشات في الشوارع والأماكن العامة، ويقفون على بوابات المساجد.
شهيق: أشاهد مدرّساً فلسطينياً محاطاً بتلامذته الصغار، يخبرهم عن تاريخ المدينة القديمة في القدس. زفير: أشاهد مدرّساً إسرائيلياً، محاطاً بتلامذته الصغار، لا أعرف ما يخبرهم، ولكن إذا ما أخذت في الاعتبار بعض ما تذكره شركات السياحة الإسرائيلية على الإنترنت، فهو ربما يخبرهم بالنسخة الإسرائيلية لتاريخ المدينة القديمة.
شهيق: أنا الفلسطينية أمشي في هذه الشوارع كغريبة. زفير: هم، الأغراب عن هذه الشوارع، يُزرعون كمواطنين أصليين.
شهيق: لقد نهبت. زفير: لقد نهبت.
ولدتُ في بلد، وتنقلتُ من دولة إلى أخرى باستمرار. حاولتُ أن اقحم ذاتي في معلّبات هويات وطنية، ربما رحبت بي نوعاً ما، لكنها خلقت بداخلي مشاعر متناقضة للانتماء. ما كان عليَّ أن أنفق جزءاً كبيراً من حياتي في البحث عن هوية أو انتماء يقبل بي. كان يجب أن تكون هويتي أمراً مفروغاً منه، مثلي مثل أي شخص آخر.
كان يجب أن أولد هنا. أن استنشق هذا الهواء الذي يحمل ذاكرة أسلافي وأسرارهم، وأن تكون أولى خطواتي على هذه التربة التي تتغذى من رفاتهم أشجار الزيتون العتيقة. كان يجب أن أحظى بطفولة عادية هنا. كان يجب أن تكون هذه الأرض ملعبي، وأن تجرح هذه الصخور ركبتي الطفلة الشقية التي كنتها.
كان لذكرياتي مع صديقتي الحميمة أن تكون هنا.
كان للقبلة الأولى أن تكون هنا.
كان للمرة الأولى تحطم فيها قلبي أن تكون هنا.
هنا.
نشرت في جريدة النهار البيروتية 30 يونيو 2012
الصور بعدستي
فإذا بي فلسطينية
ولدت، فإذا بي فلسطينية.. ومنذ أن وعيت وأنا أتحسس طريقي عبر شظايا كلمة "فلسطيني". وأكثر ما كان يخيفني من زيارتي، هو سؤال انتمائي.
بكيت حين وصلت القدس. بكيت حين زرت نابلس.
بكيت في مسجد قبة الصخرة، في كنسية المهد، في دير بئر يعقوب.
بكيت على المعابر، وعلى الثقوب في الجدران.
حملت معي حفنة تراب من شاطئ يافا وكتبت اسمي على الرمال. تجولت في شوارع رام الله تحت الأمطار..
كليشيهات مارستها كلها بحثاً. بحثاً عن انتماء يقبل بي.
ولكن انتمائي وجدته في مكان آخر.
لا في الأرض، ولا في التراب، فذلك يحتاج وقتاً طويلاً. يحتاج ذكريات. يحتاج تاريخاً شخصياً ومباشراً، سأعمل على تشييده بروح عارية .. حجرة حجرة.
منذ أن ولدت وانتمائي ينتظر، بصبر، أن أصل إليه، أن أراه، هو الذي يشع عبر عيون أهل هذه الأرض وهذا التراب.
حرارة استقبال عائلة زوجي. دفء بنات عمتي. ترحاب خالة والدتي وعمتها وأبناء عمتها. سائق الباص أبو سمير. سائق التاكسي فادي. تمتمات العجوز الذي حصّنني بالدعاء عندما سُمح لي بدخول القدس. الرجل الذي سأل عن حالتي عندما شاهد دموعي وأنا أخرج من نقطة العبور.
وفي اللقاء الغامر الأكثر من رائع مع كتاب ونقاد ومثقفين وقراء في القدس الشرقية وأصحاب المكتبة الرائعين، في الحوار الذكي، في الأسئلة الشفافة العميقة.
في سوار علم فلسطين الخرزي التي أبديت إعجابي به، فخلعه صاحبه ووضعه بيده على معصمي.
أنتم أجمل انتماء، حبي لكم هو انتمائي، ومن وهج إنسانيتكم كلكم ولدت، فإذا بي فلسطينية، لكنني اليوم أنا التي اخترت أن أكون فلسطينية.
بكيت حين وصلت القدس. بكيت حين زرت نابلس.
بكيت في مسجد قبة الصخرة، في كنسية المهد، في دير بئر يعقوب.
بكيت على المعابر، وعلى الثقوب في الجدران.
حملت معي حفنة تراب من شاطئ يافا وكتبت اسمي على الرمال. تجولت في شوارع رام الله تحت الأمطار..
كليشيهات مارستها كلها بحثاً. بحثاً عن انتماء يقبل بي.
ولكن انتمائي وجدته في مكان آخر.
لا في الأرض، ولا في التراب، فذلك يحتاج وقتاً طويلاً. يحتاج ذكريات. يحتاج تاريخاً شخصياً ومباشراً، سأعمل على تشييده بروح عارية .. حجرة حجرة.
منذ أن ولدت وانتمائي ينتظر، بصبر، أن أصل إليه، أن أراه، هو الذي يشع عبر عيون أهل هذه الأرض وهذا التراب.
حرارة استقبال عائلة زوجي. دفء بنات عمتي. ترحاب خالة والدتي وعمتها وأبناء عمتها. سائق الباص أبو سمير. سائق التاكسي فادي. تمتمات العجوز الذي حصّنني بالدعاء عندما سُمح لي بدخول القدس. الرجل الذي سأل عن حالتي عندما شاهد دموعي وأنا أخرج من نقطة العبور.
وفي اللقاء الغامر الأكثر من رائع مع كتاب ونقاد ومثقفين وقراء في القدس الشرقية وأصحاب المكتبة الرائعين، في الحوار الذكي، في الأسئلة الشفافة العميقة.
في سوار علم فلسطين الخرزي التي أبديت إعجابي به، فخلعه صاحبه ووضعه بيده على معصمي.
أنتم أجمل انتماء، حبي لكم هو انتمائي، ومن وهج إنسانيتكم كلكم ولدت، فإذا بي فلسطينية، لكنني اليوم أنا التي اخترت أن أكون فلسطينية.
|
Artworks |
Buy |
(c) Copyright Fadwa Al Qasem 2024